الشعرو قضاياه ... العروض و التجديد
الحلقة الثانية
الإيقاع ظاهرة طبيعية تعني التسلسل المنتظم لمجموعة من العناصر , فنبضات القلب , ودقات الساعة , وشعر الشعراء ,وضربات الصفارين ,ورقص الراقصين , والرسوم المتناظرة للرسامين والمهندسين , حتى الروائح الشمية , والمناظر العينية , والإحساسات اللمسية ,والمذيبات الذوقية , كلـّّها إيقاعات , إنْ جاءت متسلسلة زمنياً بإنتظام ,أما اذا تدخل العقل والفكر والإبداع بين ثناياها ,فعندها تكون الإيقاعات غير تامة الإنتظام, فتصبح فناً , ولهذا يرى عالم الجمال (هو جارت ) : إن القاعدة الثابتة في الفن هي تحاشي الإنتظام , ويقصد التام .(1)
نقول في هذه الحالات ترتقي الإيقاعات الى درجة أرفع , وهيئة أعقد , فتكون متباينة بتناسق بديع , لتشكل الفنون الجميلة المختلفة , ومن هذه الفنون الشعر, وعلى الشعر بنى العروضيون عروضهم , وبسط (ابن فارس ) هذه العلاقة بقوله إنّ " أهل العروض يجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع , الا أنّ صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم , وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة " (2) , ونحا السيوطي نحوه في هذا المجال .
فإذن الإيقاع الشعري الموسيقي العربي ( الكمي ) , هو الأصل والفصل قبل العروض وميزانه , والترقيم وأفنانه , والشعر وألحانه , شرع به العربي في ترحاله بـ (الحداء ), أغنية الصحراء , وأعقبه بـ ( النصب ) بنغماته الرقيقة ,وأشجانه العذبة التي تتوالى بفواصل زمنية عند الجهد والهمِّ والأعياء , وذكره النابغة بقوله : " كليني لِهمٍّ ٍّ يا أميمة ُ ناصبِ " , ثم هلـّت ( الركبانية ) ,إنشودة المسافات الطويلة الجماعية ,بترنيمات فطرية , ونبرات عالية , وإيقاعات منتظمة ,مع بعض الآلات الموسيقية , النافخة والوترية , ومن الإيقاعات الغنائية الاخرى ( القلس ) ,وهذا مصحوب بالدف والضرب والرقص , واللعب بالسيوف والريحان , والضرب بالأيدي على الصدور , والتهليل والإنحناء تعبدا , فالعادة قديمة بادت ثم سادت ! ,وذكره الكميت قائلاً " غنّى المقلّّسُ بطريقا بأسوار ِ" ومن كلمة بطريق - وهو رجل دين مسيحي - نستدل أنّ هذا النوع موروث ما قبل الإسلام , ويبقى عندنا ( التهليل ), وهو من الشعائر التعبدية البسيطة من دون بهرجة , فلا رقص و لا دف ولا سيف , قوامه السجع المرتل بصوت مسموع للتلبية , أخذ الطابع الجماعي , و( التغبير ) أيضا ظاهرة تعبدية قديمة انقرضت , مثله مثل ( التهليل ) , ولكن أكثر منه وأقل من القلس تعقيدا,وملامح الغبار توسم ناشديه عقبى التمريغ بالتراب , ومن غباره التغبير ! , وأكثر هذه الإيقاعات تطورا في ثباتها واستقرارها بعد السجع المنتظم لما سبق , يأتي ( الرجز ) , الذي يعتبر أبسط أنواع الشعر نظما وسهولة (3) , ولكنه ليس الأساس لتطور الشعر العربي ,فالشعر الجاهلي وصلنا ناضجاً خصباً غنياً في تجربته ومنهجه وإيقاعه وصوره ,ولا ندري متى وكيف تطور سوى أنّّ أمرأ القيس ( 500 - 540 م ) ,أشار الى ابن حذام الذي سبقه , ولا نعرف شيئاًعن هذا الابن حذامِ :
عوجاً على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بك ابن حذامِ ِ(4)
ورأى حسان بن ثابت ( ت 54 هـ-674م ) , شاعر الرسول ( ص ) , أنّ الغناء هو المقياس الإيقاعي , والمجال الروحي للشعر :
تغنَّ بالشعر إمّا كنت قائله إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ
وفذلكة الأقوال نقول ,الشعر الشعر هو الإبداع , والشاعر الشاعر هو المبدع , والموهبة تكاد تكون مكتملة , وعلى ركن هذا وأساس ذاك , وضع العرضيون عروضهم , وقاسوا بميزانهما أوزانهم , وغرفوا من بحرهما بحورهم, والعروض علم يعتمد على عقول علمائه وتقنيناتها , فعندما يتمرد عباقرة الشعر على أوزانه , يجب أن يسايرهم جهابذة العروض على جديدهم الجميل الرائع , لأن دائرة الخيال الفني , وموهبته الإيقاعية أوسع من دائرة الأدراك الحسي العقلي وتفعيلاته العروضية العربية , ومقاطعه الأفرنجية , وهذا ليس تنازلاً لأصحاب النص النثري , فانا قد رضيت بالتمرد العبقري لأنه ولود , ونوهت بأبي العتاهية رائدهم الأول , ورفضت الرفض لأنه عقيم , والحقيقة أن الفراهيدي نفسه , وبكلمة أدق عصره لم يستوعب حالات التمرد أو الشذوذ في شعر من سبقه ومن لحقه ,ويشير الدكتور جوادعلي في (مفصله ) الى خروج بعض الشعراء الجاهليين عن قواعد العروض والنحو , ويستشهد بروايات تاريخية عن إمرىء القيس , وقصيدة " عبيد الله بن الأبرص" : أقفرمن أهله ملحوب فالقطيبات فالذنوبُ
فهي من مخلع البسيط, قلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله أو زيادة . وفي قصيدة المرقش الأكبر :
هل بالديار أن تصيب لو كان رسمٌ ناطقا كلـّم
فهي من السريع , وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن , كالشطر الثاني من هذا البيت :
ما ذنبنا في أن غزا ملكٌ من آل جفنة حازم ٌ مرغم
فأنه من الكامل , ورووا اضطرابا وقع في شعر عدي بن زيد العبادي على النحو المذكور , خرج فيه من السريع الى وزن المديد ,وفي شعر غيره كذلك مثل نونية " سلمى بن ربيعة " : إنّ شواء و نشوة وخبب البازل الأمون , فهي خارجة عن عروض الخليل (5) ,ويواصل الدكتور استشهاده , ويتوصل الى قوله : " وتستحق هذه الأمور وأمثالها أن تكون موضع دراسة خاصة , لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العروض في الجاهلية , ..." (6)
ربما يعود تغافل الفراهيدي لصرامة عصره ,وميول مسامع أهله للبحور السائدة والشائعة والسالفة , لكل زمان دولة وشوؤن , وذوق وفنون , ولكل جيل من الأجيال نغماته المحببة ,وموسيقاه المطربة ,و ألحانه الشجية , وبحوره الطرية ,ففي العصر الجاهلي ساد (الطويل ) لجلاله وفخامته, ومن روائعه معلقات طرفة ولبيد وامرىء القيس , وظلت سيطرته حتى القرن الثالث الهجري . ثم تراجع عن مكانته , وفي عصرنا صعب مراسه ,لازدواج تفعيلاته , فابتعد عنه أنصار الشعر الحر ( التفعيلة ) , ومثله في هذه الخصائص المهيبة (البسيط ) , ولكن أقل شيوعا منه في جاهليتهما , وعدهما حازم القرطاجني في (منهاجه ) أعلى درجة البحور في الافتتان (7) , وترافقا في مسيرتهما حتى الإحيائيين , وفاقت صياغة الأخير على الأول لدى الرومانسيين في الربع الأول من القرن العشرين , ومن بعدهما يأتي عند العرب القدماء في ذيوعه ( الوافر ),وهبطت منزلته في القرن الثاني الهجري , وعاد الى صدارته عند شعراء الرومانسية ,ولم يتأثر به شعراء التفعيلة كسابقيه المهابين , ولكن الرجز وإن كان من أقدم البحور العربية المعروفة ,لارتباطه بحركة أقدام الأبل وحدو البدوي على إيقاعها , لم يذع بين الجاهليين , وازداد رواجه في العصر الأموي ,واستخدمت صياغته في الشعر التعليمي ( الأرجوزة ) , وأطربت تفعيلته المتكررة (مستفعلن )السياب العبقري , فتوج بها أروع قصائده ( إنشودة المطر) :
عيناكِ غابتا نخيل ٍ ساعة َ السحرْ
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حينَ تبسمان تورق ُ الكروم
وترقص الأضواءُ..كالأقمار في نهرْ
أكرر البيتين , وانا أعرف معرفتك لهما ,والأدرى بأنني طرقت مسامعك من قبل بهما , لروعة الجمال , وحسن الأفتتان , ونتقرب الان الى ( المتقارب )الذي شغل نسبة عالية في العصر الجاهلي , ثم تراجع طوال العهود الاسلامية حتى تلاقفنته الفترة الرومانسية العربية الحديثة ,ويتقدم ليصبح أكثر البحور دورانا في محيط رواد الشعر الحر , و( المتدارك )الذي بالكاد ولد في أحضان الأخفش وأهمله الشعراء لسرعة حركاته الإيقاعية الراقصة ,تناؤب عليه الزجالون في زجلهم , ونظم على بحره الحصري القيرواني قصيدته الشهيرة ( يا ليلُ الصبُّّّّّ متى غدهُ أقيام ُ الساعة ِموعدهُ ) ,ونظم أحمد شوقي على هذاالمنوال معارضا (مضناك جفاه مرقده ), زادالاهتمام به في العصر الحديث , ثم ازداد جدا في منظومات شعر التفعيلة , و( الرمل) كان شائعا في الجاهلية ,وأصبح شعبيا في العصر العباسي الأول , يلجأ إليه أبو العتاهية في زهدياته , وأبو نؤاس في خمرياته , وتلاقفه الأندلسيون ليشدوا من خلاله موشحاتهم, وأخيرا نظم الإيحائيون بعض عقودهم منه ,وزاودهم عليه الرومانسيون , وركن إليه رواد القصيدة التفعيلية المعاصرون , واستأنسوا بلطف نغماته , وإن سألت عن ( الهزج ) ,ندر لدى الجاهليين , زاد في عصور الغناء العباسي , وعاد ليمثل المسرحيات الحديثة بلسان شخوصها , وعن (الخفيف ) , فقد صار البحر الأول عند إسلامي الحجاز , وزاد عند شعراء الرومانسية ,واذا طلبت المزيد , فعليك بالدكتور سيد البحراوي و (عروضه ) (
, وهذه النظرة العاجلة تفي بالغرض المراد بأن لكل عصر ذوقه الشعري المتميز , بل ولكل بيئة اجتماعية أوتشكيلة مناطقية أو جماعة ثقافية خصوصيتها الشعرية وميولها الإيقاعية ,فالإيقاع الشعري ليس له قيمة ثابتة ,و نغمة محددة , ورتابة واحدة في كل الأمصار والعصور , فالأيام تسير ,والناس شتى , والليالي يلدن كل ّ عجيب ,وللأذن ذوق رقيب , وللموروث جذر عريب !
( العروض ) , وما استجد عن ( الإيقاع) الشعري :
الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري (ولد في عمان 100هجرية /718م - توفي في البصرة 174هجرية \ 790م) (9) , واضع علم- ولك أن تقول صناعة لحاجته للتمرن - (العروض ) على أغلب الظن , أومجدده على رواية ابن فارس (10) التي بخست الخليل حقه ,لان المعلومات وان كانت متوفره قبله , لم تصل الى درجة العلم المنهجي , والدراسة الواعية ,والقواعد الراكزة , والأستقراءات الرائعة , والصناعة الماهرة , فالعصر المنفتح على مختلف الثقافات , وأجناس الناس , تفجر عن مدارس القياس في الفقه والنحو والعروض ..لغربلة الشاذ والملحون , وصد هجمات الدخيل والهجين ,ومهما يكن سبب تسمية الأخير بالعروض ,إمّا كي يعرض الشعر عليه ليعرف صحيح وزنه من مكسوره , أو نسبة لمكان بين الطائف ومكة وضع فيه خليلنا علمه المعلوم , وقياسه المشهور , ولكن كيف ؟!
يقال إنّ الرجل مرّ ذات يوم بسوق الصفارين , فطرقت مسامعه مطارقهم على الطست , (تن , تتن , تتتن...) فرجع الى بيته, وراجع تدويناته وتقنيناته ,وقايس ومارس , ووقع اصابعه , وحركها ولملمها ,ولاريب انه كان ذا ذهن رياضي تحليلي تركيبي , وأذن موسيقيه ,وحس مرهف , وحافظة قوية , وربما قال مع نفسه :الشعر لفظ موزون مقفى ذو معنى , واللفظ صوت مسموع في الشعر , لا حرف مرسوم , والحروف بحركات وسكون , تتوالى بانتظام الى حد ما , لتشكل الأنغام ,وشبه بيت الشعِر ببيت الشعَر ( الخيمة ) , بأسبابها وأوتادها ,وفواصلها , ومصراعيها ..., وكما تعلم أن العرب لا تبدأ بساكن , فوضع أركان علم العروض أوزانه وتفاعيله ,وسار على نهجه القدماء ,رغم الإضافات والتعديلات الطفيفة , كالأخفش والجوهري والزمخشري والشيباني والمعري وابن جني وحازم القرطاجني وغيرهم , فتتركب أوزانه من شيئين , أحدهما مركب من حرفين ( السبب ) : إما متحرك وساكن , وهو ( السبب الخفيف) مثل لنْ ( /ه ),وإما متحركين , وهو( السبب الثقيل ) مثل لكَ ( //) , والثاني مركب من ثلاثة أحرف ( الوتد ) : إما متحركين يتوسطهما ساكن , وهو ( الوتد المفروق) مثل لات ( /ه/ ) , وإما متحركين يعقبهما ساكن , وهو ( الوتد المجموع) مثل نعم ( //ه) (11) , فإذن أساس الإيقاع العربي - الذي يسمى مجازا الوزن - هما ( السبب والوتد ) , واذا أمعنت قليلا, سترى الوتد هو الأصل الذي أشتق منه السبب بشقيه , وما ثلاثة أسباب الا وتدين , وتتردد هذه بما لها من كم ٍّ إيقاعي بفترات زمنية منتظمة ذات مقدار , ويخضع كمُّها للزحافات والعلل التي ترضاها أذن السامع المرهف, وتطرق الأغريق من قبل الى مثل هذه الحالة الى ما اسموه (الرتيم )(12), وتبعهم الأوربيون المعاصرون حاليا مستخدمين المصطلح نفسه , وسبق للزمخشري أن نوّه بذلك عند تعريفه للشعر العربي - إذا أستثنيا اللفظ - فالأشياء الثلاثة الأخرى , ويعني الوزن والقافية والمعنى " الأمر فيها على التساوي بين الأمم قاطبة " (13) ,وسنواصل المسيرة الموجزة للحالات المتجددة , والله الموفق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د . علي يونس : نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي ص 39 - الهيئة المصرية للكتاب 1993 .
(2) ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة ,تحقيق د صطفى الشويمي , مؤسسة بدران - بيروت 1963- ص (274- 275) ,وراجع السيوطي : المزهر في علوم اللغة وأنواعها , تحقيق وضبط محمد أحمد جاد المولى , دار أحياء الكتب العربية - القاهرة- بلا - ج2 ص 470 -
(3) راجع: عبد الرحمن الوجي :الإيقاع في الشعر العربي ص 17 - 34 - دمشق - دار الحصاد - ط الاولى 1989م .
(4) المصدر نفسه ص 40.
(5) د جواد علي :المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام , الموسوعة الشاملة ( 1/5617 ).
(6 ) المصدر نفسه (1/5618)
(7)ابو الحسن حازم القرطاجني : منهاج البلغاء ومسيرة الأدباء ص 168.
(
.د سيدالبحراوي : العروض وإيقاع الشعر العربي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993من ص 39 -53.
(9)الخليل بن أحمد الفراهيدي (الفرهودي )الأزدي أبو عبد الرحمن: سيدأهل الأدب قاطبة في علمه وزهده , كان من تلامذة عيسى بن عمرو وأبي عمرو ابن العلاء , وأخذعنه سيبويه والنضر بن شميل والكسائي الكوفي , وهو أول من استخرج علم العروض وضبط اللغة , وأملى كتاب (العين ),
(10) يرى ( أحمد بن فارس )في كتابه ( الصاحبي في فقه اللغة ) مؤسسة بدران - بيروت - 1964 ص 38 " إن أبا الأسود ليس أول من وضع العربية ,ولا الخليل أول من تكلم في العروض , وإنما هذان العلمان كانا معروفين قديما ,وتجددا على أيديهما . (11) الزمخشري : القسطاس في علم العروض ص 4.
RYTHMOS(12) .
(13) المصدر نفسه ص 2.