1 - المقدمة : أبو نؤاس واختلاف الناس حوله :
يختلف الناس كثيراً حول تقييمهم لعباقرة الدنيا خلال حياتهم ، بين من يرفعهم إلى أعالي السماء ، وبين من يهبط بهم إلى حضيض الوهاد ، لتداخل الحياة المعيشية العادية للفرد العبقري كإنسان له سلبياته وإيجابياته ، وأحاسيسه وانفعالاته ... مع القدرة الفنية أو الفكرية الهائلة التي يتمتع بها ، ويريد هذا الناس أن يوفّق هذا المخلوق بين سلوكه المعيشي الحياتي العادي وأقواله المتطلعة إلى آفاق متحضرة متجددة ، أقول يريدونه كبقية خلق الله العاديين ، وعليه أن ينسلخ من أعراض العبقرية ، ويتخلص من مضافها ويُبقي عليها ، وهذا المنال بعيد المآل ، ولا ريب أنّ أبا نؤاس أحد كبار عباقرة العرب - بل العالم - على امتداد تاريخهم الأدبي ، غطّت شهرته الآفاق، ففرض نفسه على امتداد المكان ، وعمق الزمان ، وأصبح ملح الأدب ، وظرف الكلام ، تجده على كل لسان ، لأنه اخترق قوانين الحياة ، وأعراف العباد، طبعاً لا تطبعاً ، ظاهرة لا يكررها الزمان ، إلا ما ندر ، فلا جرم أنْ يقع هذا النواسي في تلك المأسي :
ما جِئتُ ذَنباً بِهِ اِستَوجَبتُ سَخطَكُمُ **** أَستَغفِرُ اللَهَ إِلّا شِدَّةُ النَظَرِ
يا أَهلَ بَغدادَ أَلقى ذا بِحَضرَتِكُم ***فَكَيفَ لَو كُنتُ بَينَ التُركِ وَالخَزَرِ
سَحَّت عَلَيَّ سَماءُ الحُزنِ بَعدَكُمُ ***وَأَحدَقَت بي بُحورُ الشَوقِ وَالفِكَرِ
ومن مثله لا تفوته الحكمة، ولا الحنكة ،ولا سبل الخروج من المعمعة التي وضعه القدر فيها ، ليمتص كلّ قيل الناس وقالهم ، ويعبرهم متحدياً بصمت قاتل، وتأمل عاقل :
خلِّ جنبيكَ لرامِ **** وامض عنه بســــلامِ
متْ بداءِ الصمتِ خيرٌ** لك مــن داء الكلامِ
والبس الناسَ على الصـ **حة منهم والسقام
2 - التحقق من ميلاده وعمره ووفاته، وتاريخ بعض شعره لدلالته عليها :
ومشكلتنا مع أبي نؤاس - إضافة إلى اختلاف الناس حوله - اختلف المؤرخون حتى في تاريخ ميلاده ووفاته وعمره ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، يذكر الخطيب البغدادي في (تاريخه) : " أن أبا نواس ولد بالأهواز بالقرب من الحبل المقطوع سنة ست وثلاثين ومائة ومات ببغداد في سنة خمس وتسعين ومائة وكان عمره تسع وخمسين سنة ودفن في مقابر الشونيزية في تل اليهود . " (1) ، وفي (ملحق كتاب الأغاني - أخبار أبي نؤاس) إليك مانصه : " واختلف في مولد أبي نواس فقيل كان مولده في سنة ست وثلاثين ومائة وقيل سنة خمس وأربعين وقيل سنة ثمان وأربعين وقيل سنة تسع وأربعين ، واختلف في موته فقيل توفي سنة خمس وتسعين ومائة وقيل سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وتسعين وقيل سنة ثمان وتسعين وقيل سنة تسع وتسعين وقيل مات قبل دخول المأمون بغداد بثمان سنين وكان عمره تسعا وخمسين سنة ." (2) ، وفي (تاريخ أبي الفداء) ، أحداث سنة خمس وتسعين ومائة " وفي هذه السنة توفي أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر وكان عمره تسعاً وخمسين " (3) ، وفي ( أبو نؤاس - حياته وشعره) " توفي في العقد العاشر من المائة الثانية للهجرة ، وله من العمر 59 سنة " (4) .
وابن المعتز في (طبقات شعرائه ) ، يدون الولادة (139 هـ / 757 م) ، ووفاته (195 هـ أو 198 هـ / 813 م) (5)
فذلكة الأقوال ، مما سبق نكاد نقتنع أنه قضى في هذه الحياة ، ما يقارب (59 عاما) ، و لمّا كان الرجل قد مدح الإمام الرضا (ع) ، ، بقوله :
من لم يكن علويا حين تنسبه *** فما له في قديم الدهر مفتخرُ
فأنتم الملأ الأعلى وعندكمُ **** علـــم الكتاب و ما تأتي السورُ
وقوله :
قيل لي أنت أوحد الناس طرا *** في فنون من المقال البديهِ
فلماذا تركت مدح ابن موسى *** والخصال التي تجمعن فيهِ
قلت لا أهتدي لمــــدح إمامٍ ***كــــــــان جبريل خادمــا لأبيـهٍ
هذا الشعر على أغلب الظن قد نظمه أواخر حياته حين تاب توبة خلوص ، مما يدلنا عليها .شعر زهده الرائع - كما سنذكر - أي بعد مقتل الأمين (198 هـ / 813 م) واكتئابه واعتكافه ، واضطراب نفسه ، إذ فقد سنده من ( أمينه) ، و (الفضل بن ربيعه) ، وما كان له في عهدهما والسيدة ( زبيدة) معهما أن يمدح الإمام في تلك الأيام، ولا كما تذكر بعض الروايات أن هذا الشعر قاله ارتجالاً بحضرة الإمام في مجلس الخليفة الرشيد ، وتلكأ في إنشاد شعرمدح للرشيد ، كان قد نظمه أساساً لمدحه ، والرشيد مع هذا يغرقه بخمسين ألف دينار ، جاري (راتب) أربعمائة عام لموظف عادي في تلك الأيام ، ويرفض أبو نؤاس المبلغ طمعاً لدخول الجنة في أيام تهتكه وخلاعته ومجونه وخمرته وعبثه ، روايات لايقبلها عقل عاقل , ولا منطق لسليم !! (6)، نعم بعد مقتل الأمين وتوبته وشعر زهده ، قال هذا الشعر في مدح الإمام ، ولا ننفيه قطعاً ، ثم أبو نواس مدح وزراء الخليفة من آل برمك مواليه المخلصين أيام عزهم ، وخاف من الرشيد مرتعباً بعد نكبتهم ، وهرب إلى دمشق ومصر ، ولم يكن قد قابل الخليفة مطلقا ، وبعد عودته من مصر ، مدح الرشيد بثلاث قصائد ، في مقابلات رسمية ، فكيف يسمح هذا الخليفة الرهيب الذي قضى على حركتي أدريس ويحيى ولدي عبد الله المحص بالكاد (176 هـ) ، وسم الإمام الكاظم (ع) في سنة (183 هـ) بعد أن سجنه من حبس لحبس - وهو والد الرضا - ؟ من يصدق أن يقال مثل هذا الشعر بين يدي الرشيد ، ويتلكأ الشاعر في مدحه للخليفة نفسه ، وفوق كل هذا يعطيه الرشيد الشديد خمسين ألف دينار جائزة ؟ ولا يقيس القارئ الكريم شخصية وظروف هذا الهارون بابنه المأمون ، ولا دعبل الموقف العقائدي ، بأبي نؤاس الموقف الأبيقوري قبل توبته ، ودعبل أيضاً لم ينشد قصيدته التائية الشهيرة في مدح آل البيت أمام مأمونه ، إلا أن طلبها الخليفة العبد الله بعظمة لسانه ! ، ولكن لما حاول المأمون جاهداً التقرب من الإمام الرضا ، لامتصاص نقمة العلويين وأشياعهم ، وأبان اضطراب الساحة البغدادية بعد خلع أخيه ومقتله ، ووقع الشاعر النؤاسي في قبضة ( اسماعيل بن نوبخت ) الشيعي العريق ، قال الأبيات السالفة في مدح الإمام الرضا ، وعلى أغلب ظني ، أنَّ من قال له لماذا تركت مدح ابن موسى ؟ هو هذا الاسماعيل النوبختي ، فتوفي الشاعرأواسط سنة ( 199 هـ/ 815 م) ، وكان عمره ما يقارب تسعة وخمسين عاماً ، فتكون ولادته ( 139هـ / 757 م) ، وهذا التاريخ يتماشى مع ما ذكره معظم المؤرخين عن عمره ، وإلاّ كيف نوفّق بين تاريخي ميلاده ووفاته ، وبين عمره المنصوص غالباً ، ثم من علاقاته مع مسلم الصريع - ولادة (130 هـ) - , وتلميذ الأخير دعبل الخزاعي - ولادة (148هـ ) - في شرخ شبابهم ، كما دونها مؤرخو الأدب ، لم نلمس من أبي نؤاس احترام هذا الفارق الزمني الكبير أبان فتوته للمسلم بن الوليد ، على عكس دعبل وإجلاله لأستاذه الصريع !!، والنقطة الثالثة ، بعد خلع الأمين ومقتله ، وكون المأمون في خراسان بعيداً عن بغداد لأكثر من خمس سنوات بعد توليه الخلافة ، ضاعت الأمور في بغداد بين ثورات ابن طباطبا وحليقه أبي السرايا ، وبين ثورات العباسيين وتولية ابن شكلة (إبراهيم ين المهدي ) الخلافة ، هذا كله يجعلنا نطمئن لما ثبتناه محققين !
إذن ولادة أبي نؤاس أواخر 139 هـ ، ووفاته 199 هـ / 757 م - 815 م، وكفى أخباراً وروايات ! ، ويستحق منا هذا العبقري الخالد هذه التحقيقات والاجتهادات .
3 - الاسم ... الكنية... النشأة ...:
يذكر ابن عساكر في (تاريخ دمشقه) هو : " الحسن بن هانئ بن صباح بن عبد الله بن الجراح بن وهيب ويقال الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح أبو علي الحكمي المعروف بأبي نواس الشاعر مولى الجراح بن عبد الله الحكمي " (7)، كما تقرأ قدم المؤرخ القدير نسبه العربي الأصيل ، ثم أردف قوله بـ ( يقال ...) ، ، وإلى مثل هذا ذهب الخطيب البغدادي في (تاريخه) ، وكذلك ِ تذهب المراجع الأخرى - راجع الهامش (
- بين العرباء والولاء ، ويصر الدكتور شوقي ضيف أنه من أصل فارسي ، أمّا أنا لاأدري ، ولا أريد أنْ أدري ، إلا أنه عربي كبير جزماً ، وعبقرينا نفسه غير مبالٍ ، إذ يُروى لما سأله الخصيب بمصرعن نسبه " فقال : أغناني أدبي عن نسبي ، فأمسك عنه " . فكان الرجل يخفي نسبه كي يتلافى حسّاده وقاذفيه ، ليكون أكبر منهم ومن عالمهم، وأصدق ما قيل في نسبه ، قول الرقاشي :
وَاضِـــعُ نـِســبَتــَه حَيـــث اشتهى *** فـــإذَا مــا راَبــهُ ريــبٌ رَحـَـلْ
مهما يكن نسبه الرجل ، فهو من قمم الشعر العربي على مدى تاريخه الأدبي ، ويعد أبرزشعراء العصرالعباسي الأول . يكنى بأبي علي وأبي نؤاس والنؤاسي .
ولد في الأحواز إحدى قرى خوزستان جنوب غرب بلاد فارس ( 139هـ / 757م ) لأب دمشقي من جند مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ،، أمّا أمه ففارسية واسمها جُلبان ، ولم يكن أبواه معروفي الأصل والفصل ، وإنما فقراء ، بالكاد تتوفر لديهما لقمة العيش ، وبعد هزيمة مروان الحمار في معركة الزاب الأعلى، إنتقلت أسرة الشاعر إلى البصرة، والطفل أبو نواس في الثانية من عمرهِ، أو السادسة، وما أن كبر قليلاً حتى عهد به أبوه إلى القرّاء لتعلم قراءة القرآن الكريم ، وما لبث أن مات هذا الأب، فأسلمته أمه إلى الكتاب، ثم إلى عطار يعمل عنده أجيراً، يبري عيدان الطيب ، فوازن بين الكسب المعيشي ، والطلب العلمي ، والبصرة وما أدراك ما البصرة في تلك الأيام ، كان لها المركز الأول في العالمين العربي والإسلامي من حيث الشعر والأدب والعلم والفكر والثقافة واللغة والنحو والفلسفة ، شاركتها توأمها الكوفة ، ثم فاقت على الأخيرة ، ثم نافستها بغداد حاضرة الدنيا من بعد .
نشأ الفتى ، وترعرع بين الأصمعي وبشار والفراهيدي وسيبويه وأبي زيد الأنصاري ، وأبي عبيدة وخلف الأحمر ، وتتلمذ على يد الأخيرين بشكل خاص ، وحصل على ثقافة واسعة منذ عقده الأول ولكن أستاذه خلفاً الأحمر لم يسمح له بنظم الشعر إلا أنْ حفظ جملة صالحة من أشعار العرب ، ثم طالبه بنسيانها (9). والبصرة لم تكن مركزاً للعلم والفكر والأدب فقط ، بل مجالاً للخلاعة واللهو والعبث والمجون ، والخمرة والفتيان ، والجنون فنون ، فسار معها حيث تسير على الموجتين :
جريتُ مع الصبا طلق الجموح ***وهان علي مأثور القبيح!!
رأيت ألذ عافية الليالي****** قــران العـود بالنغم الفصيح
ومسمعة إذا ما شئت غنت***** متى كان الخيام بذي طلوح
تزود من شباب ليس يبقى*وصلْ بعرى الغبوق عرى الصبوح
وخذها من مشعشعة كميتٍ ****** تنزل درة الرجل الشحيح
تخيرها لكســــرى رائداه ***** لــــها حظان من طعم وريـح
ألم ترني أبحت اللهو عيني *** وعض مراشف الظبي المليح
وأيقن رائدي أن سوف تنأى ****مسافة بين جثماني وروحي
4 - والبة بن الحباب الأسدي المتهتك الخليع يحمل أبا نؤاس من البصرة ويقدم به الكوفة !! :
لذلك كلّه تعارف في بصرته على الخليع والبة بن الحباب الأسدي الكوفي أحد الشعراء اللامعين في ميدان الخلاعة والتهتك،وصحبه إلى الكوفة ، يروي لنا الخطيب البغدادي في (تاريخه) " ولي يحيى خراج الأهواز فأخرج معه والبة بن الحباب وكان يأنس به فوجهه إلى البصرة ليشتري له بها حوائج وكان فيما يشتري له بخورا فصار إلى سوق العطارين فاشترى منها عودا هنديا وكان أبو نواس يبري العود وهو غلام فاحتج إليه في بري ذلك العود وتنقيته فلما رآه والبة كاد أن يذهب عقله عليه فلم يزل يخدعه حتى صار إليه فحمله إلى الأهواز وقدم به إلى الكوفة بعد منصرفهم فشاهد معه أدباء الكوفة في ذلك الوقت فتأدب بأدبهم" (10) ، فأدبه هذا (الحباب) ! وخرّجه ، وعرّفه على الخليعين مطيع بن إياس ، وحماد عجرد ، وانتقل به إلى بادية بني أسد ، فمكث بين هؤلاء سنة كاملة ، فأخذ اللغة من منابعها الأصلية ، فتهكمه بهم من بعد ليس من باب الشعوبية والحقد ، وإنما من باب الانبهار من حضارة بغداد وجواريها وخماراتها ومجونها ، حيث أراد أن يعيش ، فرمى أعاريب بداوتهم بالجهل ، وعدم التفتح على الحياة الصاخبة ، اقرأ معي :
يبكي على طلل الماضين من أسد *** لا در درك قل لي من بنو أسد
ومـن تميم ومن قيس ولفهما *****ليس الأعاريب عند الله من أحدِ
سنأتي على الأبيات عند الحديث عن التجديد .
5 -أثر مدرسة الكوفة،وعصبة خليعيها ومتهتكيها ومُجّانها في التعجيل ببروز ظاهرة أبي نؤاس :
الكوفة الحمراء عاصمة الثورات والانتفاضات والمعارضة السياسية والعقائدية في العصرين الأموي والعباسي ، كم " كان الدم يصبغها ثم لا يكاد يجف حتى يسفك دم آخر" على أراضيها - على حد تعبير الدكتور طه حسين في (مع متنبيه) - ، و كم قمعت وما خنعت ، لذلك أطلق عليها الدكتور يوسف خليف ( الطائر الحبيس ) في كتابه ( حياة الشعر في الكوفة) ، هذا الكوفة مدينة أبي حنيفة في ( مدرسة قياسه) ، والكسائي في (قراءته ونحوه) ، والرؤاسي في (صرفه) ، وابن الكلبي في (نسابته) ، وابن العربي في (لغته) ، وابن قتيبة في ( أمامته وسياسته ، وشعره وشعرائه ) ، وأبي العتاهية في ( زهده) ، ومسلم الصريع في (بديعه) ، وجابر بن حيان في (كيميائه) ، وابن هاشم في (تصوفه) ، ودعبل الخزاغي قي (موقفه) ، وأبي دلامة في ( ظرفه ونوادره )... ، نعم تأثر بكل هؤلاء الكوفيين وأكثر مما لا يتسع المجال لذكرهم ، وأثر فيهم ، ولكن ليست هذه وجهة كلامنا ، وإنما مع الطيور التي على أشكالها تقع ، فمن الضرورة بمكان أن نتفهم بيئة الكوفة أيام ذاك الزمان من وجهها الخلاعي التهتكي الماجن العابث ، لما له من أثر على التعجيل ببروز ظاهرة أبي نؤاس المتميزة في تاريخ الأدب العربي والعالمي ، ولا أقول على خلق الظاهرة ، لأن أبا نؤاس مخلوق طبعاً للقيام بهذا الدور الإبداعي الجريء والخطير ، ولو لم يتوفر هذا المحيط ، لخلق لنفسه مثله ، تعال معي يا قارئي الكريم لهذه المشاهد ، وإن كانت تخدش الحياء ، فالدراسة الأكاديمية عندما تتطلع إلى الحقيقة ، تضع الحياء الكاتم جنب الرياء الظالم، لذلك تتعقل لتتعلم سرّ الإبداع ، وتتفهم مدرسة الحياة ، ربما غيري يقحم الشواهد والروايات دون تقديم و تعليل ، أوأخذ ورد ، ولا أرى بأساً من الإفاضة ، لما فيها من الإفادة ، مهما يكن إليك مشاهد وشواهد من أفعال وأشعار شلّة والبة بن الحباب ، وحماد عجرد ، وسلم الخاسر ، وفضل القراشي ، ومعهم هذا النؤاسي القافز على أكتافهم في حلبات سباقهم !!
6 - مشاهد وشواهد من أفعال وأشعار شلّة الخلاعة والتهتك :
يقدم لنا الرقيق القيرواني في (سروره و ووصف خموره) ما تيسر له من أخبار أبي نؤاس مع حبّابه وأحبابه قائلاً : والبة بن الحباب الأسدي هو الذي ربّى أبا نواس وأدَّبه وعلَّمه الفتوة وقول الشعر، وكان والبة ظريفاً، شاعراً ماجناً، يقال إنه كشف يوماً عن فقْحةِ أبي نواس فأعجبه حُسنها، فضرط عليه أبو نواس، فقال له والبة: ما هذا؟ فقال: أما سمعت المثل: جزاءُ من قبَّل الاست ضرطة، فزاد عجباً، وعَلِم أنه سيخرج ماجناً، ووالبة هو القائل :
مزجت له مشعشعة شمولاً ***معتقةً كرقراق الشراب
فخلت على ترائبها نجوماً ***مطوفةً على ذهبٍ مذابِ
ومن شلة أبي نؤاس فضل القراشي، وكان شاعراً ماجناً خليعاً يهاجي نؤاسينا ، ومن أقوال هذا الفضل :
ألا لا تعذلاني قد ***** وهبت للذتي نسبي
إذا ما الماء أمكنني *** وصفو سلافة العنب
صبيت الفضة البيضا**ء فوق قُراضة الذهب
فأَسبُك منهما طرباً *** فزرني تلفِ ذا طربِ
ومن عصابته في الكوفة سلم الخاسر، وكان شاعراً ماجناً، وسميَّ الخاسر لأنه باع مصحفاً ورثه عن أبيه واشترى بثمنه طنبوراً، وهو القائل :
أمزج الراحَ براح **** واسقني قبـل الصباح
ليس من شأني فدعني**شربُ ذا الماء القراح
وهذا حمَّاد عجرد وكان خليعاً ماجِناً متهماً في دينه، وفيه يقول الشاعر:
نعم الفتى، لو كان يعرف ربَّهُ *****ويقيمُ وقت صلاته حمَّادُ
هدلت مشافرَهُ الدِّنانُ وأنفه ***** مثل القدوم يسُنُّها الحـدَّادُ
وابيضَّ من شرب المدامة وجهُهُ**فبياضُه يوم الحساب سوادُ
وكان حماد العجرد يهاجي بشارالأعمى البصير ، وبنفس الوقت يؤدب ولد الربيع الحاجب، فقال بشار مخاطباً ربيعه ، ومحرّضاً على حمّاده !!:
يا أبا الفضل لا تنم ** وقع الذئبُ في الغنم
إن حماد عَجْردٍ *** شيخ سوءٍ كما اعتلم
بين فخذيه حربةٌ****في غلافٍ من الأدم
فهو إن راءَ غفلةً ***مجمج الميم بالقلم
فلما بلغت الأبيات الربيع صرف حماداً عن تأديب ولده ..!!
ماذا يرتجى من الذي يتطبع مع والبة والحمّادين الثلاثة والخاسر والفضل المار ذكره ، والبشار المشهور فسقه ، ومن لفّ لفهم ، وطبعه فوق ذلك يغلب تطبعه ؟ المرتجى خاتمة هذه الحلقة ، وما سيصكُّ سمعك من شعر بقى على لسان الدهر ، والدهر يعيبه ، ويخلّده ، ما أعجب هذا الإنسان الغامض ...!!
نظر رجل إلى أبي نواس وهو بقُطْرُبُّل وفي يده كأسٌ وبين يديه عنب وزبيب، فقال له: ما هذا يا أبا علي، قال : الأب والابن والروح القدس، وهو القائل:
إن تكونا كرهتما لذة العيـْ ** شِ حذار العِقاب يوم العقاب
فدعاني وما ألذ وأهوى***وادفعاني في نحر يوم الحساب
وروى أحمد بن صالح قال: رأيت أبا نواس يوماً وقد كنس مسجداً ورشَّه ونفض ترابه فقلت له: ما هذا، قال: يرتفع إلى السماء خبر ظريف! (11) ، ونتركك مع الظريف على أمل اللقاء مع اللطيف بعد عودته لبصرة واصل والأصمعي والجاحظ والفراهيدي وسيبويه وبشار وابي الشمقمق الوجودي الخفيف ...شكراً لصبركم الجميل !