مــــن عيون الشعر العربي : رائعة الشاعر المثقب العبديّ :
فإِمَّا أَنْ تَكونَ أَخِي بحَقٍّ = فأَعْرِفَ مِنْكَ غَثِّي أَوْ سمِينِي
وكان أبو عمرو بن العلاء يستجيد هذا القصيدة له ، ويقول :
لو كان الشعر مثلها ؛ لوجب على الناس أن يتعلموه !!!
ولعل من أجمل ما سمعت من رؤى نقدية لتلك القصيدة البديعة ،
رأي العلامة الدكتور ناصر الدين الأسد ؛ إذ يقول في لقاء تلفزيوني ما معناه :
(( من يتهم الشعر الجاهلي بالتفكك والخلو من الوحدة الموضوعية فليعد إلى قصيدة المثقب العبدي , ومن يظن أن الشعر الجاهلي صعب اللفظ على إطلاقه ومخصوص بزمنه فليتأمل قصيدة المثقب , القصيدة من أولها إلى آخرها تدور حول معنى وجداني يلهب أفكار الشاعر وهو : بغض النفاق والمداهنة في مقابل إخلاصه هو ..
لا تعدي مواعد كاذبات /
إما ان تكون أخي بحق /
وهذا النفاق يجعل الرؤية ضبابية غير واضحة فلا يستطيع اتخاذ القرار المناسب , والنتيجة : الحدّيّة في الرأي والعقاب القاسي حتى لو كان بتقطيع الجسد..
إذا لقطعتها /
كذلك أجتوي من يجتويني /
وإلا فاطرحني واتخذني عدوا أتقيك وتتقيني /
ولا أدري إذا يممت وجها ..أريد الخير أيهما يليني /
في هذا النص يبحث المثقب عن الصواب والوفاء والإخلاص , ويفاجأ بملاحقة الخطأ
والغدر والخيانة ..
أألخير الذي أنا أبتغيه ..أم الشر الذي هو يبتغيني !!!
قال المثقب العبديّ :
أَفَاطِمَ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِينِي = ومَنْعُكِ ما سَأَلْتُ كأَنْ تَبينِي
فَلاَ تَعِدِي مَوَاعِدَ كاذِباتٍ = تَمُرُّ بِها رِياحُ الصَّيْفِ دُونِي
فَإِنِّي لو تُخالِفُنِي شِمالِي = خِلاَفَكِ ما وَصَلْتُ بِها يَمِينِي
إِذاً لَقَطَعْتُها ولَقُلْتُ بِيني = كذلِكَ أَجْتَوِى مَنْ يَجْتَوِينِي
لِمَنْ ظُعُنٌ تُطالِعُ مِنْ ضُبَيْبٍ = فما خَرَجَتْ من الوادِي لِحِينِ
مرَرْنَ على شَرَافَ فَذَاتِ رَجْلٍ = ونَكَّبْنَ الذَّرَانِحَ باليَمِينِ
وهُن كَذَاكَ حِينَ قَطَعْنَ فَلْجاً = كأَنَّ حُمُولَهُن علي سَفِينِ
يُشَبَّهْنَ السَّفِينَ وهُنَّ بُخْتٌ = عُرَاضَاتُ الأَباهِرِ والشُّؤُونِ
وهُنَّ علي الرَّجائِزِ وَاكِنَاتٌ = قَوَاتِلُ كلِّ أَشْجَعَ مُسْتَكينِ
كَغِزْلاَنٍ خَذَلْنَ بِذَاتِ ضَالٍ = تَنُوشُ الدَّانِياتِ من الغُصُون
ظَهَرْنَ بِكِلَّةٍ وسَدَلْنَ أُخْرَى = وثَقَّبْنَ الوَصَاوِصَ لِلْعُيُونِ
وهُنَّ على الظِّلاَمِ مُطلَّباتٌ = طَوِيلاَتِ الذَّوائِبِ والقُرُونِ
أَريْنَ مَحَاسِناً وكَنَنَّ أُخْرَى = مِنَ الأَجيادِ والبَشَرِ المَصُونِ
ومنْ ذَهَبٍ يَلُوحُ على تَرِيبٍ = كلَوْنِ العاجِ ليْسَ بِذِي غُضُونِ
إِذَا ما فُتْنَهُ يَوْماً بِرَهْنٍ = يَعِزُّ عليهَِ لم يَرْجعْ بِحِينِ
بِتَلْهِيةٍ أَرِيشُ بِها سِهامِي = تَبُذُّ المُرْشِقاتِ منَ القَطِينِ
عَلَوْنَ رُبَاوَةً وهَبَطْن غَيْباً = فَلَمْ يَرْجِعْنَ قائِلَةً لِحِينِ
فَقُلْتُ لِبَعْضِهِنَّ، وشُدَّ رَحْلِي = لِهَاجِرةٍ نَصَبْتُ لَهَا جَبينِي
لَعَلَّكِ إِنْ صَرَمْتِ الحَبْلَ مِنِّي = كَذَاكِ أَكُونُ مُصْحِبَتِي قَرُونِي
فَسَلِّ الهمَّ عَنْكَ بِذَاتِ لَوْثٍ = عُذَافِرَةٍ كَمِطْرَقَةِ القُيُونِ
بِصادِقَةِ الوَجِيفِ كأَنَّ هِرًّا = يُبارِيهَا ويأْخُذُ بالوَضِينِ
كَسَاهَا تامِكاً قَرِداً عليها = سَوَادِيُّ الرَّضِيحِ معَ اللَّجينِ
إِذَا قَلِقَتْ أَشُدُّ لَها سِنَافاً = أَمَامَ الزَّوْرِ منْ قَلَقِ الوَضِينِ
كأَنَّ مَوَاقِعَ الثَّفِنَاتِ مِنها = مُعَرَّسُ باكِرَاتِ الوِرْدِ جُونُ
يَجُذُّ تَنَفُّسُ الصُّعَدَاءِ مِنْها = قُوَى النِّسْعِ المُحَرَّمِ ذِي المُتُونِ
تَصُكُّ الحَاِلبَيْنِ بِمُشْفَتِرُّ = لَهُ صَوْتٌ أَبَحُّ منَ الرَّنِينِ
كأَنَّ نَفِيَّ ما تَنْفِي يَدَاهَا = قِذَافُ غَرِيبَةٍ بِيَدَيْ مُعِينِ
تَسُدُّ بِدَائمِ الخَطَرَانِ جَثْلٍ = خَوَايَةَ فَرْجِ مِقْلاَتٍ دَهِينِ
وتَسْمَعُ للذُّبابِ إِذَا تَغَنَّى = كَتَغْرِيدِ الحَمَام على الوُكُونِ
فالْقَيْتُ الزِّمامَ لها فنامَتْ = لِعَادَتِها منَ السَّدَفِ المُبِينِ
كأَنَّ مُناخَها مُلْقَى لِجَامٍ = عَلَى مَعْزائِها وعَلَى الوَجِينِ
كأَنَّ الكُورَ والأَنْسَاعَ مِنها = على قَرْوَاءَ ماهِرَةٍ دهِينِ
يَشُقُّ الماءَ جُؤْجُؤُها ويَعْلُو = غَوَارِبَ كلِّ ذِي حَدَبٍ بَطِينِ
غَدَتْ قَوْدَاءَ مُنْشَقًّا نَسَاها = تَجَاسَرُ بالنُّخَاعِ وبِالوَتِينِ
إِذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ = تَأَوَّهُ آهةَ الرَّجُلِ الْحزِينِ
تقُولُ إِذَا دَرَأتُ لها وَضِينِي = أَهذا دِينُهُ أَبَداً ودِينِي
أَكُلَّ الدَّهرِ حَلٌّ وارْتِحالٌ = أَمَا يُبْقِي عَليَّ وما يَقِينِي
فأَبْقَى باطِلي والجِدُّ مِنْها = كدُكَّانِ الدَّرَابِنةِ المطِينِ
ثَنَيْتُ زِمامَها ووضَعْتُ رَحْلِي = ونُمْرُقَةً رَفدْتُ بها يَمينِي
فرُحْتُ بها تُعارِضُ مُسْبَطِرًّا = على صَحْصَاحِهِ وعلى المُتُونِ
إِلى عَمْرٍو ومِنْ عَمْرو أَتَتْنِي = أَخي النَّجَدَاتِ والحِلْمِ الرَّصينِ
فإِمَّا أَنْ تَكونَ أَخِي بحَقٍّ = فأَعْرِفَ مِنْكَ غَثِّي أَوْ سمِينِي
وإِلاَّ فاطَّرِحْنِي واتَّخِذْنِي = عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وتَتَّقِينِي
وما أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَمْراً = أُريدُ الخَيْرَ أَيُّهُما يَلِينِي
أَأَلخَيْرُ الَّذِي أَنا أَبْتَغِيهِ = أَم الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي