كريم مرزة الاسدي
عدد المساهمات : 45 تاريخ التسجيل : 26/07/2011 العمر : 75
| موضوع: طرفة الوجودي والنابغة الارستقراطي بين أيدي الملوك الأحد مارس 03, 2013 8:35 pm | |
| طرفة الوجودي والنابغة الارستقراطي بين أيدي الملوك 2 - هؤلاء بين أيدي هؤلاء
جذور تبعية الثقافة للسياسة في تاريخ الأدب العربي
1 - طرفة بن العبد بين عمرو بن هند اللخمي والمكعبر قاطع الأرجل والأيدي : هذا (الطرفة) الشاعر الحكيم ...الفتى القتيل , رغم مقتله في ريعان الشباب بين عبث الوجودية ومُجن ِ الشراب , يفيض شعره بالعِِبرة من زمانه إلى زماننا , والحياة هي الحياة , والإنسان هو الإنسان , والدنيا تدور , ولا يبقى إلاّ طرفها الخارق للنفوس المذكور , فصراع ابن العبد مع السيد المطاع سكب العَبرة عليه , فبقت على مرّ الدهور والعصور , صيّرته أسطورة التاريخ والخلود ...!! فمن هذا ؟ ومَن ذاك ؟ ففي (خزانة الأدب) عن " القاموس: الطرفة محركة: واحدة الطرفاء، وبها لقب طرفة بن العبد، واسمه عمرو، ولقب ببيت قاله , وهو أشعر الشعراء بعد امرئ القيس. ومرتبته ثاني مرتبة؛ ولهذا ثني بمعلقته. وقال الشعر صغيراً ..." (9) وسنترك الزركلي يلقي مزيداً عنه من (أعلامه) , إذ يشاركنا الرأي قائلاً : " طرفة بن العبد (نحو 86 - 60 ق هـ - نحو 538 - 564 م) طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد , البكري الوائلي , أبو عمرو: شاعر، جاهلي , من الطبقة الاولى . ولد في بادية البحرين , وتنقل في بقاع نجد واتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه , ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر (عامله على البحرين وعمان) يأمره فيه بقتله , لابيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر، شابا، في (هجر) قيل : ابن عشرين عاما , وقيل: ابن ست وعشرين , أشهر شعره معلقته , ومطلعها : (لخولة أطلال ببرقة ثهمد) وقد شرحها كثيرون من العلماء ..." (10) الرجل سليل عائلة نابغة في الشعر , فمن دراسة شجرته العائلية حتى شجرة نازك الملائكة المعاصرة لنا , مروراً بالمعري وأسرته , والجواهري وعشيرته , نستطيع أن نتبين أن الموهبة الشعرية يمكن أن تتوارث , وتنجب شعراء كبار فيما إذا أصقلت الموهبة بيئيا , فطـَرْفنا كان جده وأبوه وعماه المرقشان وخاله المتلمس كلهم شعراء , نشأ شاعرنا الجاهلي يتيماً بعد وفاة أبيه أبان فتوته , فتنكر له أعمامه , واستحوذوا على إرثه , وحق أمه , فساح بين الملذات والمتع واللهو والخمر , والفروسية واللعب , لا يخلو من شهامة ونخوة , وإن تجاهلوه ,فهو المتجاهل للجهول : إذا القومُ قالوا مَن فتًى ؟ خلتُ أنـَّني ***عُنيتُ فلَم أكسَـــل ولم أتَبَلــَّدِ ولستُ بحلاّلِ التـِّلاعِ مخافـــةً*******ولكن متى يسترفِدِ القومُ أرفِدِ إذن الرجل لا يحلّ ُ تلاعه المضياف التي تعلو مسيل الماء بخلاً ولا جبناً , بل هو رافد الأقوم أنـّى كان , حتى في حوانيت الخمّارين ! اقرأكيف يطوي السخرية بالجد : فإن تبغِني في حلقَةِ القومِ تلقَني *** وإن تلتَمسني في الحوانيتِ تصطَدِ وما زالَ تَشرابي الخمورَ ولذَّتي *** ** وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتلَدي إلى أن تحامتني العشيرةُ كلها *** ** وأُفــردت إفــــراد البعيـر المعبـّد رأيتُ بني غبراء لا ينكرونني **** ** ولا أهل هَـــذَاك الطِّراف المُمَدَّدِ ألا أيـُّهَذا اللائمي أحضُر الوغَى *** وأن أشهدَ اللذاتِ ، هل أنتَ مُخلِدِي ؟ فإن كنتَ لا تسطيعُ دفعَ منيــَّتي ***** *فدعني أبادِرهـا بِما ملكَتْ يدي كما يتوضح لي من شعره تماماً - وربما تشاركني الرأي - الرجل سبق عصره كثيراً , فهو لايبالي بالقيم العشائرية , ويركلها بقدميه , ولا يهتم بتجاهل هذا الناس له , صريح القول في إفراده , وعدم إنكار بني غبرائه , وأطرافه , لا يعرف النفاق , وجودي النزعة , فما الحياة عنده إلا الخمرة واللذة والنخوة , وليصرف ما في الجيب حتى يأتيه حدّ الغيب , فلا هو مخلد , ولا ذاك الممدد : أرى قبر نحام ٍ بخيل ٍبماله ***** كقبر غويٍّ في البطالة مفسدِ (الطـَرفة ) ليس بهامدٍ ولا خامدٍ , قوي النفس والعزيمة , شافعه تفهمه لسر الوجود , والخيط الرفيع الجلي الخفي بين الحياة وصراعها الفاني , والمنية والإبداع الباقي , فقد هام في البلاد بين العباد ختى وصل شمال الجزيرة ثم عاد إلى أهله البعاد , ورعى إبل أخيه (معبد) لاهياً شارباً , ولما ضعفت حيلته , توّجه إلى بلاط الحيرة العامر بحضارة اللخميين , وزهو ملكه الغرير عمرو بن هند , مقرّب الشعراء , مبذل العطاء , فأصبح شاعرنا من الندماء كخاله وصديقه المتلمس الضبعي - جرير بن عبد العزى أو عبد المسيح من بني ضبيعة - الذي هجا الملك ابن هند , فهمَّ الأخير بقتله , ففرَّ الشاعر (المتلمس) للحياة إلى بصرى الشام , فوافاه الأجل بها تحيطه حورانها . (11) , كما سيأتيك الخبر . وفي مرة من المرات ذهب هذا (الطرفة) الحرمع خاله (المتلمس) بصحبة (قابوس بن النعمان) المرشح للملك , أخي الملك (عمرو بن النعمان - ابن هند - ) للصيد من الصباح حتى العشية , فتعبا , وباتا بقرب سرادق الملك العمرو , ولمّا طلّ الصباح عبث بهما السيد القابوس بن هند , فلم يسمح لهما بالدخول عليه إلا عشية اليوم , وما كان لدى الطرفة من حيلة غيرهجاء السيد الملك وقابوسه قائلاً : فليت لنا مكان الملك عمرٍو **** رغوثا حول قبتنا تخور من الزمرات أسبل قادماها، *** * وضرتها مركنةٌ درور يشاركنا لنا رخلان فيها **** وتعلوها الكباش وما تنور لعمرك , إن قابوس بن هندٍ*****ليخلـــط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمنٍ رخي***كذاك الحكم يقصد أو يجور لنا يومٌ وللكـــروان يـــوم ***** تطير البائسات ولا نطير فأما يومهن فيوم ســـــوءٍ **** تطاردهن بالحدب الصقور وأما يومنــــا فنظل ركباً ******وقوفــــاً ما نحل ولا نسير(12) وكان لطرفة ابن عم اسمه عبد عمرو بن بشر يخدم عمرو بن هند. وكان طرفة قد هجاه بقصيدته اللامية حيث يقول - وبعض هذه الأبيات شرحها التبريزي في الحماسة - : ألا أبلغا عبد الضلال رسالة *** وقد يبلغ الأنباء عنك رسولُ دببت بسري بعدما قد علمته *** وأنت بأسرار الكرام نسولُ فأنت على الأدنى شمالٌ عرية ٌ*** شآمية تزوي الوجوه بليلُ وأنت على الأقصى صباً غير قرةٍ**تذاءب منها مرزغ ومسيل فأصبحت فقعاً نابتاً بقرارةٍ ******تصوّح عنه والذلـيل ذليلُ وإن لسان المرء ما لم تكن لهُ ****حصاة على عوراته لدليلُ وإن امرءاً لم يعف يوماً فكاهة** لمن لم يرد سوءاً بها لجهولُ لا نطيل عليك ... البيت ما قبل الأخير يقحم نفسه فيه, فذكاؤه أكبر من عقله , والبيت الأخير يفحم غيره بفيه , فسخريته أنصف من هجائه!! المهم لمّا جاء قابوس خرجوا كلهم يتصيدون , وكان عمرو بن هند معهم وهو ينقم على طرفة. فلما توغلوا في الفلاة فرأوا صيداً فقال الملك لعبد عمرو بن بشر : انزل فبارزه. فنزل إليه فعالجه فلم يقدر عليه وكان عبد عمرو سميناً بادناً. فقال له عمرو كان ابن عمك طرفة رآك حين قال : يا عجباً من عبد عمرو وبغيه *** لقد رام ظلمي عبد عمرو فانعما ولا خير فيه غيـــر أن له غنى *** * وأن له كشحاً إذا قام اهضما فقال له عبد عمرو وما هجاك به فهو أشد من هذا قال : وما هو؟ قال قوله: (فليت لنا مكان الملك عمرو...) . وأنشده الأبيات , تغاضى الملك وأضمر في نفسه , ولكن خاف من المتلمس أن يثأر لابن أخته , إن مسّ طرفة بسوء , فدعا الأثنين إليه , وقال لهما : لعلكما اشتقتما إلى أهلكما , وسركما أن تنصرفا , فسلمهما رسالتين إلى (المكعبر) قاطع الأيدي والأرجل من الكعابر , وكان عامله على البحرين , وخشى المتلمس الكبير سنـّا سوءاً من كتاب الملك المضرّط - عمرو بن هند هند كان يكنى مضرط الحجارة -فأعطاه لغلام يقرأه , فصدق حدسه , أو ما نبّه إليه , فرمى الرسالة في النهر , ونجا بجلده وكعابره , ومضى حتى لحق بملوك بني جفنة بالشام , وهو يقول : وألقَيتُهَا بالثَّنِي مِن جَنبِ كافرٍ ***كَـذلِـكَ ألـقـي كُـلَّ رَأي مُـضَلَّلِ رَضـيتُ لهَا بالمَاءِ لمّا رَأيتُهَا*** يَجُولُ بهَا التيَّارُ في كلِّ جَدوَلِ وأبى (الطرفة) مشورة خاله ونصحه , وسار إلى حتفه , لثقته بنفسه وشاعريته , ولصدق تعامله مع غيره , والحصيلة إمّا قطع ذاك المكعبر رجليه ويديه , ودفنه حيّاً , وكان موته نحو سنة ( 564م ) . وقيل أن عمره لم يتحاوز ستاً وعشرين سنة والشاهد على ذلك قول أخته (الخرنق) ترثيه : عددنا له ستاً وعشرين حجة**** فلمّا توفاها استوى سيداً ضخما فجعنا به لمّا رجونا إيابــــه **** على خير حال لا وليداً ولا قحما وزعم بعضهم أنه كان ابن عشرين سنة لما قتل والعرب تقول أشعر الناس ابن عشرين , وإمّا أنه بعد نجاة المتلمس وصل إلى البحرين , ولما قرأ العامل صحيفته وسأله عن المتلمس فأخبره بفراره عفا عنه لصدقه ورعايته لطابع الملك حيث لم يفكه. وقيل: أنه سجنه وبعثه إلى عمرو بن هند وقال له: ما كنت لأقتل طرفة وأعادي قبيلته فإذا أردت قتله فابعث إليه من يقتله. ففعل وخير في قتله فاختار أن يسقى الخمر ويفصد أكحلاه. ففعل به ذلك حتى مات نزفاً ودفن بهجر وقال البحتري يصدق ما تقدم : ولقد سكنت إلى الصدور من النوى ***والشري اري عند طعم الحنظل وكذاك طرفة حين أوجس ضربة *** في الرأس هان عليه فصد الأكحل (13) تعددت الأسباب والقتل واحد ! 2 - النابغة الذبياني و : نبئت أنَّ أبا قابوس أوعدني ...! : حكم الحيرة بادئ ذي بدء مالك بن فهم الأزدي وأخوه عمرو منذ إتمام تمصيرها بشكل آمن ورسمي سنة (211م) , ولكن العاصمة حينذاك كانت الأنبار , ثم استلم جذيمة الأبرش (الوضاح) زمام القيادة والحكم حتى مقتله على يد زنوبيا ملكة تدمر سنة (268 م) , فقام ابن أخته عمرو بن عدي اللخمي ملكاً , فأتخذ الحيرة عاصمة , وتوالى اللخميون ملوكاً نافذين , وأقيالاً تابعين للفرس على حكم الحيرة , وأوسمهم العرب بـ (المناذرة) , لكثرة الملوك ممن حملوا هذا الاسم , والحق هؤلاء ومن قبلهم من آل فهم كلـّهم قحطانيون , فهم من العرب الأقحاح الذين دعموا الشعر العربي , وكرموا شعراءه , وكان معظمهم أشدّاء حازمين , تماهوا بألقاب مرهوبة رهيبة كملك العرب ومحرق العرب ومضرط الحجارة , ناهيك عن الأعور (السائح) والأعرج وابن هند وابن ماء السماء والأصاهب , وصاحب الغريين , وصاحب يومي البؤس والسعد ...في أواخر تلك الأيام ينهض بالشعر العربي المهيب النابغة الذبياني ( 535 - 604 م) , هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري, وكنيته أبو أمامة، ولقب بالنابغة لنبوغه في الشعر , وقيل لقوله : وحلّت في بني القين بن جسر*** فقد نبغت لهم منا شؤون النابغ عمّر طويلاً , فأصبح كبيراً في سنـّه , حكيماً لتجاربه , شريفاً في قومه , معتزّاً بنفسه , وإن تكسب بشعره , رفيعاً في طبقته الأولى , تضرب له قبة من جلد أحمر في سوق عكاظ ليفاضل بين الشعراء , ويحكـّم بينهم , قرّبه الملوك , وأجزلوا له العطاء بعد مدحهم دون تصنع أو تملق , اتصل بالنعمان بن المنذر الرابع , ملك الحيرة ( حكم بين 585 - 607 م ) (14) , ومدحه بقصائد رائعة كثيرة، فأدناه النعمان إليه، وصار أثيراً عنده ومن أعزّ ندمائه، وغمره بعطائه الجزل، حتى صار النابغة يأكل في صحاف الذهب والفضة ، ويُروى عن عصام حاجب النعمان - والذي سيرد ذكره - , إذ يخاطب حسان بن ثابت : " قد بلغني أن النابغة الذبياني قدم عليه وإذا قدم فليس لأحد منه حظ سواه فأستأذن حينئذ وانصرف مكرما خير من أن تنصرف مجفوا فأقمت ببابه شهرا " (15). ومع كلّ هذا غضب عليه هذا , وتختلف الروايات في سبب الطامة الكبرى , فقيل إن النابغة رأى زوجة النعمان " المتجردة " يوماً في حين غفلة فسقط نصيفها عن وجهها فاستترت بيدها وذراعها، فقال فيها قصيدته : أمن آل أمية رائح أو مغتدي *** عجلان ذا زاد وغير مزودِ سقط النصيف ولم ترد إسقاطه **** فتناولته واتقتنا باليدِ بمخضب رخص كأن بنانه **** عنم على أغصانه لم يعقد وبفاحم رجل أثيث نبته *** كالكرم مال على الدعام المسند (16) نظرت اليك بحاجة لم تقضها **نظر السقيم إلى وجوه العوّدِ فامتلأ النعمان غضباً , وأوعد النابغة فهرب , وقيل إن غضب النعمان عليه لأن أحد خصوم النابغة نظم هجاء في النعمان على لسانه , منه البيت : قبّح الله ثمّ ثنـّى بلعن ٍ**** وارث الصائغ الجبان الجهولا وكانت أم النعمان بنت صائغ من فدك , ومع أن النابغة تبرأ من الأبيات , ولكنه خاف على نفسه فهرب إلى الشام , وقيل ان سبب وعد النعمان للنابغة أنه كان هو والمنخل اليشكري جالسين في مجلس النعمان ومعهم زوجته المتجردة , فقال النعمان للنابغة : صفها في شعرك , فقال قصيدته (أمن آل مية ...) , وضمن فيها معالم مفاتن إنوثة المتجردة بشكل صارخ , وكان اليشكري من أوسم رجال عصره , فغار من النابغة المحظوظ , فقال للنعمان الدميم : هذا الشعر لا يقوله إلا المجرب ! فحقد الملك الحاكم على المملوك الشاعر , فخشى الأخير من بطش المتجبر , وقيل إنّ عصام بن شهبر الجرمي حاجب النعمان أنذره وعرّفه ما يريده النعمان وكان صديقه , وعصام هو الذي يقول فيه الراجز : نفس عصام سودت عصاما *** وعلمته الكر والإقداما وصيّرته ملكا هماما ولهذا هرب نابغتنا إلى الشام حيث ملوك غسان , فنزل بعمرو بن الحارث الأصغر سليل مارية ذات القرطين اللذين يضرب بهما المثل : أولاد جفنة حول قبر أبيهم *** قبر ابن مارية الجواد المفضل فامتدحهم , ونال عطاءهم , ولبس عزّهم , وغمر من فيض كرمهم بعد تبجيلهم له , ولكن عقله الباطن مضطرف خائف متوجس , فأخذ يعكس انفعالاته النفسية على شكل شعر يتبين منه التودد , والندم , وطلب الصفح وإبداء الاستكانة , والحقيقة أجاد في المدح كما بلغ الغاية في الاعتذار , واعتذارياته إلى النعمان من عيون الشعر العربي وهي فن جديد من فنون الشعر الجاهلي , وتبلغ غاية الجودة والإحسان ومنها قوله : أتاني أبيت اللعن أنك لمتني *** وتلك التي تستك منها المسامعُ مقالة أن قد قلت سوف أنالـه ***** وذلك مـن تلقاء مثلك رائعُ فإنـّك كالليل الذي هو مدركي***وإن خلت أن المنتأى عنك واسعُ وأنت ربيع ينعش الناس سيبه **** وسيف أعيرته المنية قاطعُ أبى الله إلا عدله ووفاءهُ**** فلا النكر معروف ولا العرف ضائعُ (17) وكذلك قوله الآخر , ويجعله اليعقوبي في (تاريخه ) بحق المنذر , وهو خطأ : نبئت أنّ أبا قابوس أوعدني *** ولا قرار على زأر ٍ من الأسدِ (18) مهلاً فداء لك الأقوام كلهم*** وما أثمر من مال ومن ولدِ ولابد أخيرأ أن نذكر أنَّ النابغة كان شخصية محببة جذّابة , والنعمان يميل إليه جداً , ويفضله على جميع جلسائه , مهما بلغت منزلتهم الأدبية والاجتماعية , فلاجرم من كانت هذه منزلته عند الملك , يترقب الأخير العذر منه , ليصفح عنه , وهكذا كان الأمر , فلما قدم الفزاريان على النعمان , وكان بينهما دخلل أي خاصة , وكان معهما النابغة قد استجار بهما وسألهما مسألة النعمان أن يرضى عنه , فضرب عليهما قبة من أدم ولم يشعر بأن النابغة معهما , ودس النابغة قينة تغنيه بشعره الذي يعتذر فيه إليه , ويمدحه فيه , وهو مما حسب من المعلقات لجودته وإبداعه , وعذوبته وشهرته : يــا دار مـــيـة بـالـعـليـاء فـالــسـنــدِ***أقـــوت وطـال عـلـيهـا سـالـف الأبـدِ وقــفـت فــيهـا أصــيــلانـا أسـائـلهــا***عـيــت جـوابا ومـا بـالـربـع من أحـدِ ردت عـــلـيـه أقـــاصـــيـه ولـــبــده*** ضــرب الولـيـدة بالمـسحـاة فـي الـثأدِ أمــست خــلاء وأمـسـى أهــلـهـا احتملوا *** أخنى عليها الذي أخنى على لبدِ كـــأن رحـــلـي وقــــد زال الــنــهـار بنـا*** يـوم الجلـيـل عـلى مستـأنـس وحدِ قـالـت لــه النـفـس : إنــي لا أرى طمـعـاً *** وإن مـولاك لـم يـسلـم ولــم يــصدِ فـتــلــك تـبـلـغـنـي الـنـعــمــان إن لـــهُ***فضلا على الناس في الأدنى وفي البعـدِ ولا أرى فـاعــلا فــــي الــنــاس يـشـبـهـهُ ****ولا أحـاشي مــن الأقـوام مـن أحـدِ إلا سـلـيــمــان إذ قــــــال الإلــــــه لـــــه : ***قـم فـي البـرية فاحـددهـا عـن الفـندِ فــمـــن أطـــاعـــك فـانـفــعــه بـطـاعــتــهِ **** كــمــا أطــاعــك وأدلله عـلى الـرشـدِ ومــــــن عـــصـــاك فـعـاقــبــه مـعــاقــبــة ***تنـهـى الظـلـوم ولا تـقـعـد عـلى ضـمدِ احـكـم كـحـكـم فـتــاة الـحــي إذ نـظــرت **** * إلــى حــمـــام شــــراع وارد الــثمـد يــحــفـــه جــانــبـــا نــــيــق وتــتــبــعــه **** مـثـل الزجـاجـة لـم تكـحـل من الـرمـد قـالــت : ألا ليـتـمـا هــــذا الـحـمــام لــنــا **** إلــى حـمـامـتــنــا أونــصـفـــه فـــقــد أنـبــئــت أن أبـــــا قـــابـــوس أوعـــدنـــي *** ولا قـــــرار عـــلـــى زأر مـــن الأسـد يـظــل مـــن خــوفــه الــمــلاح معـتـصـمـا ****بـالـخـيـزرانــة بـــعــد الأيـــن والــنـجــد فلما سمع الشعر قال أقسم بالله إنه لشعر النابغة , وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريين فكلماه فيه فأمنه , وأرسل إليهما بطيب وألطاف مع قينة من إمائه فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة قبلهما , فعند ذلك قال حسان بن ثابت فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت له أشد حسدا على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه أم على جودة شعره أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها . وقيل إن السبب في رجوعه إلى النعمان بعد هربه منه أنه بلغه أنه عليل لا يرجى فأقلقه ذلك ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته وما خافه عليه وأشفق من حدوثه به فصار إليه وألفاه محمولا على سريره ينقل ما بين الغمر وقصور الحيرة. (19) وكان الشاعر قد مدح عمراً أخا النعمان , بقصيدة من روائع قصائده : كليني لهم يا أميمة ناصب ******وليل أقاسيه بطيء الكواكبِ وصدر أراح الليل عازب همه**تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ تقاعس حتى قلت ليس بمنقض**وليس الذي يهدي النجوم بآئبِ (20) عليَّ لعمرو نعمة بعد نعمةٍ ***** لوالده ليســــــت بذات عقاربِ هكذا ترى منذ البدء كان الشعر العربي وسيلة لتسلط السلطان , لا يفلت منه لا الشاعر الوجودي التعبان الجوعان , ولا الشاعر الارستقراطي المترف الشبعان , وما الشاعر إلا المثقف الوحيد الذي وصلت أخباره من ذلك العصر الجاهلي , إذ كان لسان الناس , والمعبر عن أحوال المجتمع والجماعة , , ومن جاء من بعد لم يكن أحسن حالاً من قبل , وإن تعددت وجوه الثقافة , ربما لأن الشعب العربي أكثر تعلقاً بلغته لجمالية شعرها , و قبلية ناسها , ومن ثم قدسية كتابها حتى أصبحت شغلهم الشاغل , وإن أخفقوا بتطويرها عندما حلـّت العصور الظلمة , وما زلنا نلتمس النور , ولا بصيص دون جهد وكدٍّ وتمحيص ...!!
| |
|