البياتي... ودعوة لمذكرات رجل مجهول أخرى !
الحلقة الأولى
كريم مرزة الاسدي
في 21 ربيع الثاني 1420 هـ الموافق 3 آب 1999م توفي الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي , وكان قد أوصى قبل وفاته أن يدفن قرب ضريح المتصوف الشهير محيي الدين ابن عربي (1) على سفح جبل قاسيون , إذ أقيم للشيخ الأكبر مسجد كبيرا حول ضريحه , يزوره المسلمون من محبيه ومريديه وعاشقي طريقته التصوفية (وحدة الوجود) التي تعتبر الله هو الوجود الحق , متأثرين بالفكر الحلولي و التي استقر عليها البياتي أواخر حياته , بعد أن تخطى فلسفة القناع الحلاجية , كما جاء في دعوته للثورة في ( بستان عائشة ) 1989م , وما عائشة إلاّ محبوبته الأبدية , يستخدمها رمزا للحرية والثورة , وأحياناً يستعير عشتار بدلا منها , وذلك بمدلولات عميقة , و بإيجاز شديد , ينعت الشهيد :
يتوهج في نور المشكاة
متحداً في ذات الله
لا يفنى
مثل شعوب الأرضْ
يتحدى في ثورته الموتْ
ولا تفوت القارئ الكريم إشارته في " متحداً في ذات الله " إلى الفكر الحلولي وبيتي الحسين بن منصور الحلاج ( قتل 309 هـ / 922م) :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
أدنيتني منك حتى ظننتُ أنّكً أنّي
تأثر البياتي بالمتصوفين والزاهدين الإسلاميين , كما يذكر هو في كتابه (تجربتي الشعرية) , ومما أورده في دواوينه ممن تأثر يهم , أمثال الجامي , وجلال الدين الرومي , والسهروردي , والخيام , والشافعي , وأبي العلاء المعري , إضافة إلى الحلاج وابن عربي وغيرهم , وسنمرُّ على قصيدة البياتي الموسومة " عين الشمس أو تحولات محيي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق " , وذلك في ديوانه " قصائد حبٍّ على بوابات العالم السبع " الصادر عام ( 1971م ) , لنبين مدى تأثره بابن عربي إقرأ معي :
فكلُّ اسمٍ شاردٍ وواردٍ أذكرهُ , عنها أكني واسمها أعني
وكلُّ دار ٍفي الضحى أندبهُ , فدارها أعني
توحد الواحدَ في الكلِّ
والظلُّ في الظلِّ
وولد العالمَ من بعدي ومن قبلي
يتكلم الشاعر بلسان ابن عربي , بل يوظف عبارة له على سبيل التناص :" فكلّ اسمٍ أذكره , في هذا الجزء فعنها أكني , وكلُّ دار ٍأندبها , فدارها أعني " (2), فكرة الحلول , ورؤية وحدة الوجود السرمدي يتجلى في النص تماماً , وشاعرنا مرة يحقق التناص لأقوال متصوفيه , وتارة يلمح بإشارات موجزة , أو بإشعاعات موحية , ولكن بإسلوب متجدد معاصر.
مهما يكن من أمر , نُفذت وصيته , سيان من قبل عائلة الفقيد - ولا أعتقد أنها كانت - أو السلطات السورية التي كانت تحيطه برعاية تامة واهتمام خاص لكونه ضيفاً عليهم بدعوة من الرئيس حافظ الأسد نفسه , ولكن بدرجة أقل مما حظاه الجواهري عندهم , وهذا قد غاض النظام العراقي الأسبق وسيده المطلق , أما السوريون فكانوا يعرفون من أين تؤكل الكتف ! ومن الإنصاف والعدل أنْ نذكر أنّ البياتي قد مدح الجواهري أبان مكوثه في دمشق بقصيدة سينية عمودية رائعة , لا تتجاوز أبياتها اثنتين وعشرين - إن لم تخني الذاكرة - و قد حضرت تشييعه , ومراسم دفنه في أراض وعرة خلف مسجد المتصوف العربي , إذ توجد مقبرة صغيرة , وإلى جوارها مقبرة ( زين العابدين ) , ودعتني بعد ذلك وزارة التعليم العالي والبحث العلمي السورية رسمياً لتقديم بحث أو قصيدة عن الشاعر الرمز في حفل تأبين عالمي للبياتي الكبير , وكنت قد كتبت عنه وعن شاعريته من قبلُ - ( 1994م) - عدة مقالات , ونشرت في الصحف , ولكن في هذه المرة حدد الموعد بعد التاريخ الذي حددته هيئة الأمم المتحدة لهجرتي , وظروفي وظروف عائلتي لم تكن تسمح لتجاوزه , ولا أعرف من الأمر شيئاً بعد ذلك .
وعلى ما يبدو لي أن البياتي قد لبى الدعوة السورية للإقامة في دمشق في سنة ( 1997م ) , إمّا لضغوط مورست عليه لمدح رئيس النظام الأسبق في ظروف لا يحسد عليها العراق , وإن كان قد جعل رئيسه اسطورة التاريخ في قول عابر له أيام الوجد " هو الذي رأى كلّ شيء " , لكن سرعان ما قلب السحر على الساحر في (قصيدة العراء ) , لمّا عرّى الشعراء المخصيين , وهتف " يموت الديكتاتور , ويبقى ا الشعراء" ! ومَنْ نعته بـ (الدمية ) , كان الأجدر أن يعرف نفسه , وينعت بها غيره وغيره , فهذا ظلم لأن دواوينه لا تتسم بهذا الوصف , وإنما بالواقعية والواقعية الاشتراكية والإسطورة والصوفية والعولمة الإنسانيه , ووظف العشرات من قصائده لنصرة المظلومين والفقراء والمعدمين والكادحين , هذا الغالب الأعم , أقول قولي هذا وأنا غير ملزم بقبول كل ما يراه ويرتأيه متفلسفاً أو متصوفاً أو مفكراً , المهم وجد نفسه في وضع حرج , وهو رجل كثير التوجس , شديد الإحساس , قلق الشعور , شأنه شأن معظم الشعراء الكبار , أو وجّه وجهه شطرالشام لينهي حياته فيها جنب إمام متصوفيه , بعد أن قدم إليها من بغداد قاضياً فيها ثلاثة أشهر , إثر عودته من عمان الأردن , على عكس الجواهري الذي تشبث بالعودة إلى العراق أواخر حياته ليدفن في وطنه , ولكن لظروف غامضة لم تتحقق رغبته , وأهله أدرى بالأمر مني , وبياتينا قد ألمح منذ 1971م بدون وعي منه إلى قبره في دمشق و قاسيونها , وابن عربيّه ورحلته الأبديّة قي قصيدته السابقة (عين الشمس) , وصدق حدسه في قوله :
عدتُ إلى دمشق بعد الموت
أحملُ قاسيون
أعيدهُ إليها
مقبلاً يديها
فهذه الأرضُ التي تحدها السماءُ والصحراء
والبحر والسماء
طاردني أمواتها وأغلقوا علي باب القبر
وحاصروا دمش
وليست غريبة على شاعرنا عبد الوهاب أحمد البياتي هذه الأجواء , فلقد كانت ولادته سنة (1926م / 1345هـ ) في محلة باب الشيخ قرب ضريح الشيخ المتصوف الشهير ( عبد القادر الكيلاني ) (3) , وهي
من محلات بغداد الشعبية , ويقول البياتي نفسه عن حيّه " كان الحي يعجُُّ بالفقراء والمجذوبين والباعة
والعمال والمهاجرين من الريف والبرجوازيين الصغار , كانت هذه المعرفة هي مصدر ألمي الكبير الأول " , والحقيقة أن الرجل كان يشعر بالأضطراب والخوف المرضي وتفاهة الحياة والكآبة والحزن , ولكن الحزن لا يسكبه على شكل آهات ودموع كما تصبه نازك الملائكة , وإنما يجعل من نفسه شهيداً حلاجياً , كما أسلفنا , أو يتخذ من سيزيف رمزا للجهود الإنسانية الضائعة :
الصخرة الصماء للوادي يدحرجها العبيد
" سيزيف "يبعث من جديد من جديد
في صورة المنفي الشريد
التراكمات اللاشعورية الطفولية التي خزنت في عقله الباطن أخذت تتجلى أفعالاً وأقوالاً , نلمسها في سلوكه وكتاباته , بالرغم من أنّ عائلته كانت متوسطة الحال اقتصادياً , إذ كان أبوه يبيع المواد المنزلية في دكان له في سوق ( الصدرية ) , كما سمع زميله في الدراسة الأستاذ فؤاد التكرلي , وذكر ذلك في صحيفة ( الشرق الأوسط ) (4) , ومما يؤكد خبر التكرلي ما ذكرته الدكتورة ميسون البياتي , وهي ابنة أخيه السيد عبد الرزاق - في مقال لها في (الحوار المتمدن ) بأنّ والدها (تولد 1928م) وعميها الآخرين عدنان (الأصغر) وعبد الستار (الأكبر) , كانوا تجار مواد غذائية , بل تزيد أنّ عمها الأخير عميد أسرتهم كان نائباً لرئيس غرفة تجارة بغداد , وله أختان وهما السيدتان مريم وخديجة , وزوجته السيدة هند نوري , وابنه علي , وابنته نادية التي توفيت في امريكا عام 1991 م والأخرى اسمها أسماء والبقية لم تذكرهم , ولم تخف أن عائلتهم كانت ذات ميول شيوعية , والدليل إسقاط الجنسية العراقية عن الشاعر عام 1963م عقبى رفضه العودة من موسكو(5) , ربما الميول تغيرت من بعد , لأن الشاعر وبعض أقربائه المخصوصين تسنموا عدّة مناصب تعتبر للمحظوظين في الدولة والمجتمع ... على العموم أنا لا يهمني هذا كثيرا , ولا تهمني العلاقات والميول والأتجاهات والمشاحنات والقيل والقال والسلوك الشخصي للمبدع ’ إلا إذا أثرت هذه الأمور على مسيرته الإبداعية , وحق المجتمع , أو الضرر بالشعب , وهذا ما سرت عليه في كل بحوثي عن العباقرة والشعراء الملهمين قديماً وحديثاً , فالمصالح الشخصية من طبيعة البشر , (وأين عن طينتنا نـُعدي ؟)! كما يقول ابن الرومي , وقد ذكرت في مقال سابق أنّ العبقرية حالة غير مستديمة في الفرد , إذ سرعان ما يعود المتميز إلى حالته الطبيعية وسلوكه المعتاد , والناس الذين لا يدركون هذه الحقيقة يندهشون ويختلفون حولهم , وما أنا بمندهش , ولا أتعب نفسي بنبش خصوصيتهم لعلمي أنهم بعض الأنام , لهم محاسنهم , وعليهم مثالبهم .
ولم أرَ أنّ البياتي قد وظف شعره ضد مجتمعه لمصالح شخصية , في مجتمع اختلطت فيه الثقافة بالسياسة جبراً , فالرجل عاش معظم حياته مغترباً متنقلاً حاملاً راية الثقافة بدليل شهرته - مع علمي بالمناصب الوظيفية التي شغلها - واستطاع بذلك أن ينقل الشعر العربي إلى آفاق عالمية , ووثق علاقاته مع شعراء عالميين كبار , وتذكر الدكتورة ميسون , قد أطلق اسمه على شارع ومكتبة في مدريد .
نعود والعود أحمد , والحديث شجون البيئة الطفولية بشموليتها وبمراحلها الثلاث , هي التي تعكس بعض ملامح شعر الشاعر , لذلك ترى مثلاً اختلافا بيّناً بين شعري السياب والبياتي , بل بين سلوكيهما أيضاً , وهذا أمر بديهي , لقروية الأول ببساطتها الطيبة , وطبيعتها الخلابة , وجداولها الجارية , وبساتينها الثرة , وتبغدد الثاني بجوها الصاخب وتعقد علاقاتها , ومجد تراثها , ونيران حرّها , يقول وهابها فيها :
ولدت من زبد البحر
ومن نار الشموس الخالده
كلما ماتت بعصر بعثت
قامت من الموت وعادت للظهور
أنت عنقاء الحضارات
وأنثى سارق النيران
في كل العصور !
وإذا أردت المقارنة بين شعري الشاعرين الخصمين في فرض الوجود على الموجود , إليك ما يقول السياب وتأمل ولا تفضل ,فالعراق هو الأفضل !
بويب
بويب
اجراس برج ضاع في قرارة البحر
الماء في الجرار ,والغروب في الشجر
وتنضح الجرار اجراسا من المطر
بلورها يذوب في انين
بويب يا بويب
فيدلهم في دمي الحنين
اليك يا بويب
يا نهري الحزين كالمطر
نزيد من مسيرة حياة البياتي العتيد في حلقة قادمة , والله المستعان للوصول لما عناه العنوان !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)هو محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي , وإن كان أندلسياً , إذ جاء أجداده إليها منذ زمن الفتوحات الإسلامية , فهو من سلالة عربية عريقة , يطلق عليه الشيخ الأكبر ولد العربي في مرسيه الأندلس عام (558 هـ /1164م ) , وتوفي في دمشق (638 هـ /1240 م) .
(2) ترجمان الأشواق :محيي الدين ابن عربي ط 3 صنة 2003 م المقدمة دار الحصاد
(3) هو عبد القادر الجيلاني ( الكيلاني) ابن أبي صالح موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد , بعضهم يرجع نسبه إلى الإمام الحسن (ع) , فقيه حنبلي متصوف , تنسب إليه كرامات , ويلقبه مريدوه بتاج العارفين , وشيخ الشيوخ , ولد في كيلان (470 هـ / 1077م) , وتوفي بعد ميلاد محيي الدين ابن عربي بسنتين , وذلك في ( 561 هـ / 1166م) .
(4) صحيفة الشرق الأوسط : عدد 24/ 9/ 2003م مقال بقلم الأستاذ فؤاد التكرلي تحت عنوان : شاعر لم يكن يهمه شيء سوى بناء أسطورته الشخصية .
(5) الحوار المتمدن : العدد 2069 بتاريخ 15 / 10 /2007 مقال بقلم د . ميسون البياتي