رابح خدوسي
عدد المساهمات : 2 تاريخ التسجيل : 11/08/2011 العمر : 68
| موضوع: رواية «الضحية» الخميس أغسطس 11, 2011 5:46 pm | |
| «الــضحيـــــة» [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]بقلم / الكاتب رابح خدوسيالأعناق تشرئب إلى المتحدثين في شوق ولهفة، الأذان تستلذ نكهة الحديث كل مساء في دكان القرية الوحيد، حيث تلتقي النخبة التي يدعي أفرادها الفهم والمعرفة بأمور الدنيا وأحوال المستقبـل، وكل واحد يحاول أن يكسـب تأييد المصغين إليـه، إلاّ محمود بن الشيخ يحيى الذي لم يكن من بين الصغار الذين يهمهـم الاستماع بل كان يشمئز أي اشمئزاز من مبالغة الكبـار في وصف الحوادث. كان همّه الوحيد هو الوصول إلى قمة المجد،،، في السير على طريق المستقبـل الذي سلكه سالم الذي يدرس بالثانويـة في المدينة، كان شديد التأثر به يقلده في طريقة حديث، وفي كيفية سيره وحالة هندامه لما يمتاز به من دماثة الخلق وحسن السلوك وزاد في ذلك نجاحه وانتقاله للدراسة بالمدينة، كان محمود يتحين الفرص المناسبة للاقتراب منه ولقائه لكن خجله من الرجال الذين كانوا يقتربون من سالم ليزودهم بمختلف الأخبار أو يوضح لهم بعض أمور الفقه الغامضة يعوقه عن ذلك. التقيـا ذات مرة صدفة فاستعار محمود من سالم بعض الكتب والكراريس لمطالعتها،،، راقه الخط الجميل والألوان الزاهية التي زادته تشويقا لمطالعتها حتى النهاية. التقى سالم بمحمود مسـاء الخميس عند عودته من الدراسة وبادره بعد التحية قائلا: هل طالعت الكتب والكراريس كلها؟ أجاب محمود باحترام: - نعم، وإني لك من الشاكرين. قال سالم ف باعتزاز: - لا شكر على واجب،، فالعلم يجب أن يمنح مجانا كالماء والهواء.. قاطعه محمود سائلا: - أريد أن أسألك عن شيء لم أعرف معناه،،، - نعم، تفضل في الأدب، في العلوم أو مواد أخرى أنا في خدمتك (وهيأ سالم نفسه في سعلة خفيفة). سرّ سالم لهذا الاستعداد قائلا: - ما هو مدلول الصفصاف المو.....؟؟؟ لم ينتظر سالم نهاية السؤال، حوّل بصره في حركة لا إرادية نحو الجهة الخلفية ومررّ يده على وجهه كأنه يمسح عرقا. كان يكبره بعدة أعـوام طويل القامة نحيف الجسم تظهر على ذقنه بعض الشعيرات تتلاعـب بها يد النسيم بينما كان محمود يبدو قصير القامة عريض المنكبين، صوته الغليظ ينشر الحروف نشرا. احتار محمود لموقف سالم بعد السؤال وراح يوضح له من جديد: - إني لم أقصد الصفصاف ونباته أو شجرة الصفصاف التي تنظر إليها الآن،،، كانت شجرة الصفصاف من النعم التي يتمتع بها سكان القرية، دائمـة الاخضرار ذات أغصان طويلـة وعريضة تكسوها الأوراق الوافرة، ذات جذع كبير يكتنف رسما لقلب واسع تتوسطه عبارة (تحيا الجزائر)،، ومما زادها جمالا تربعها على عين جارية تسقي أغلب سكان القرية بمائها العذب وأضفى عليها امتناع الذكور من الشباب والرجال الاقتراب منها هيبة كبيرة،، لقد كانت ملتقى الفتيات الحسان اللائي يملأن قربهن من مائها ويتبادلن ما طاب لهن وما لذّ من أنواع الحديث حول الأعراس المنتظرة وأغاني الموسم الجديدة،،، سرح سالم بباله بعيدا في جولة مفتوحة ثم نظر إلى محمود قائلا في جفاء: - ما هي الصفصافة التي تقصدها إذا؟ أجاب محمود آسفا: - الكلمة التي تكتب على كل صفحة من صفحات دفاترك. أجاب سالم بسرعة: - الصفصاف هو اسم الثانوية التي أدرس بها، هل هناك سؤال آخر؟؟ تظاهر محمود بالاقتناع قائلا: - ... شكرا،، غدا سأحضر لك أمانتك،،، وافتراقا.... -.................... من روائع الحياة التي وهبها الخالق لمخلوقاته الطبيعة بهوائها وسكونها اللذين يطفوان على حياة سكان الريف،،، وتتجلى فيها الصورة الرائعة للجمال،، قد يسأم السامع من حديثهم اللامدود المعاد أكثر الأوقات حول المواسم والمحاصيل الزراعية وأسعار الغلال في الأسواق، وقد تكون سذاجة التفكير عندهم نعمة أخرى،،، باتت العائلة تفكر في غد والتويزة التي يقيمها الحاج لحصد ما زرع في فصل الخريف،،، وأقبل الصبح متمهلا، سأل محمود أباه: - كيف تترك عملك وتقوم بأعماله؟؟ أجاب الشيخ يحي: - المساعدة واجبة بيننا يا بني انفعل محمود وقام قائلا: - لماذا لا نساعد أنفسنا أو المحتاجـين للمساعدة، إن الحاج بوعلام في غنى عن مساعدتنا.. - ما زلت صغيرا يا بني.... بينما كنت أظنك عالما ومجربا،،، خرجت الكلمات من بين شفاه الأب ممزوجة بالحسرة وعاد محمود إلى جلوسه موجها كلامه نحو أمه التي كانت منهمكة في حلب العنزة: - هذا كلامه كلما رآني أوضح الحقائق يتهمني بالجاهل الصغير... - في الحقيقة يا بني،، إننا كلنا صغار أمام الحاج بوعلام وأعوانه،، قاطعها الشيخ يحيى قائلا: - حدثيه يا حورية عن معمر الذي رفض الصيف الماضي الحصاد عند الحاج. أخذ محمود فنجان القهوة وهو يقول: - رجل شجاع،،، أكثر الله من أمثالك يا سي معمر،،، إنّه يستحق قهوة من مقهى الحا... توقف محمود عن الكلام وانفجرت أسارير الشيخ يحيى عن قهقهة صدرت بعدها كلمات في جدٍّ حزين: - أكمل.. قلها يا بني مقهى الحاج بوعلام،،، لا تخش أن أقول لك أنت أصغر من طفل،،، ثم اذهب واسأل معمر من أين يجلب المواد الغذائية وماذا يركب؟؟ كانت يد محمـود تضغط على جبينه كأنه أمام امتحان عويـص، تهاطلت عليه الأسئلة في ازدحام لماذا لا يركب معمر الشاحنة كغيره من الناس؟ لماذا لا يذهب إلى الدكان؟ ما وراء ذلك؟ انقبض جبينه ثم اتسعت عيناه في هدوء، بدا على محمود وكأنّه يستيقظ بعد حلم غريب وردّد هامسا: - مقهى الحاج،، دكان الحاج،، شاحنة الحاج... قامت الأم منصرفة نحو البهو وهي تقول لابنها: كل القرية للحاج، حتى البيض قبل نزوله مرهون للحاج. وضع الشيخ يحيى المنجل على كتفه والابتسامة تعلو محياه. - اهتم بدراستك يا بني، إن ما حرثته أمس أحصده اليوم وما تزرعه أنت في صدرك سيضل طول الحياة مثمرا. وخرج الشيخ يحي مهرولا يريد اللحاق بالجماعات المتوجهة نحو السهل، تنهد محمود متأسفا وقام في الحين يحمل الكيس الصغير الذي يحفظ فيه أدواته وخرج قاصدا المدرسة في خطوات متباينة تطوي المسافة في تحد، شعر بحركة سارية بين الخمائل تتبعه وكأنها ترسم أثاره، وقف ناظرا خلفه تأمل قليلا ثم سأل قائلا: - ماذا تفعل هنا؟ لماذا جئت؟ لم ترد عليه إلا نظرات غامضة مستضعفة، حاول محمود أن يهدّده بكلمات يعمّها الرفق أكثر من الغضب. - هيا.. عد،، عد يا "مورا" إلى المنزل. أحس الكلب بالإهانة فبكت عيناه بغير دموع وقرأ محمود في نظراته علامات العتاب فراح يداعبه بلطف ويمسح على رأسه: - هل أنت جائع؟ أنسيت أن اسمك لقب جنرال؟ حسنا يا صديقي الجنرال،،، أدخل محمود يده في الكيس وأخرج رغيفا من الخبز كانت أمه وضعته بداخله ليسدّ به رمقه أثناء الاستراحـة في المدرسة،، رآه الكلب فالتمعت عيناه وكاد أن يختطفه من يد صاحبه،،، سرّ محمود وهو يرى كلبه "مورا" يفتت كسرة الشعير بين أضراسه ويـولي عائدا صوب المنزل،،، هز رأسه في حيرة وتعجب وواصل سبيله مرددا: "جوع كلبك يتبعك... جوع كلبك يتبعك". دروب القرية ملتوية بين الحدائق والبيوت ذات المعالم الواضحة سارها محمود صامتا وعيناه مطرقتـان إلى الأرض كأنه يبحـث عن شيء ضائع، قد كسبه منذ الأزل، صادفته زمرة من زملائه التلاميذ، بادروه سائلين: إلى أين يا محمود؟ أدهشه اتجاههم وسؤالهم ورد عليهم: - كما ترون،، أولا صباح الخير، لكن هل نسيتم موقع المدرسة، وفي هذا اليوم بالذات،،، ما بك تفكر يا عزيز؟؟ نطق عزيز في حماس: صباح الخير يا محمود،،، هلا رافقتنا؟ - ........... - نحن ذاهبون إلى التويزة إلى مدرسة الحاج... "وتعاونوا على البر.." قال محمود حائرا: - لكن....! قاطعه جهيد: - العمل شرف وحق وواجب. تساءل محمود: ولكنكم صغار؟،،، ثم أنسيتم موعد الامتحان الأسبوع المقبل؟؟ قال جهيد في غير اكتراث: كل حسب سنه،، عزيز يجلب الماء ونحن نجمع الغمار وراء الحاصدين. - والدراسة؟ والامتحان؟ أجاب عزيز: - لماذا نمتحن والنتيجة معروفة. - هل ضمن لكم بوعلام النجاح؟؟ ضحك زملاؤه وقال جهيد في تأن: - إنك آخر من يعلم يا محمود بأنه لا نجاح لنا هذه السنة،،، - لماذا،،،؟ - لقد أخبرنا بوزيد بن الحاج بأن مديررالمدرسة قال له: ما دام التلاميذ لا يدرسـون الفرنسية فمصيرهم الرسوب حتما،، لقد تأخـرنا، هيا يا جماعة،، سار جهيد ورفقاؤه قليلا ثم التفت نحو محمود قائلا في استهزاء: - أرجو لك النجاح يا محمود،
يتبع......
| |
|